.فَائِدَةٌ في إِرْسَالِ الْمَثَلِ:
عَقَدَ جَعْفَرُ بْنُ شَمْسٍ الْخِلَافَةِ فِي كِتَابِ الْآدَابِ بَابًا فِي أَلْفَاظٍ مِنَ الْقُرْآنِ جَارِيَةٍ مَجْرَى الْمَثَلِ، وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْبَدِيعِيُّ الْمُسَمَّى بِإِرْسَالِ الْمَثَلِ وَأَوْرَدَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى:
{لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النَّجْم: 58].
{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 92].
{الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يُوسُفَ: 51].
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: 78].
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الْحَجّ: 10].
{قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يُوسُفَ: 41].
{أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هُودٍ: 81].
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}.
{لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ}.
{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فَاطِرٍ: 43].
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الْإِسْرَاء: 84].
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَة: 216].
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [الْمُدَّثِّر: 38].
{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الْمَائِدَة: 99].
{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التَّوْبَة: 91].
{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرَّحْمَن: 60].
{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [الْبَقَرَة: 249].
{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يُونُسَ: 91].
{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الْحَشْر: 14].
{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فَاطِرٍ: 14].
{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الرُّوم: 32].
{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الْأَنْفَال: 23].
{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سَبَأٍ: 13].
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَة: 286].
{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [الْمَائِدَة: 100].
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الرُّوم: 41].
{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الْحَجّ: 73].
{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصَّافَّات: 61].
{وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24].
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الْحَشْر: 2]. فِي أَلْفَاظٍ أُخَرَ.
.النَّوْعُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: فِي أَقْسَامِ الْقُرْآنِ:
أَفْرَدَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِالتَّصْنِيفِ فِي مُجَلَّدٍ سَمَّاهُ التِّبْيَانَ. وَالْقَصْدُ بِالْقَسَمِ تَحْقِيقُ الْخَيْرِ وَتَوْكِيدُهُ حَتَّى جَعَلُوا مِثْلَ
{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 1]. قَسَمًا وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِخْبَارٌ بِشَهَادَةٍ لِأَنَّهُ لَمَّا جَاءَ تَوْكِيدًا لِلْخَبَرِ سُمِّيَ قَسَمًا.وَقَدْ قِيلَ: مَا مَعْنَى الْقَسَمِ مِنْهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْمُؤْمِنِ فَالْمُؤْمِنُ مُصَدِّقٌ بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ مِنْ غَيْرِ قَسَمٍ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْكَافِرِ فَلَا يُفِيدُهُ.وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَمِنْ عَادَتِهَا الْقَسَمُ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تُؤَكِّدَ أَمْرًا.وَأَجَابَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ بِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْقَسَمَ لِكَمَالِ الْحُجَّةِ وَتَأْكِيدِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ يُفْصَلُ بِاثْنَيْن: إِمَّا بِالشَّهَادَةِ وَإِمَّا بِالْقَسَمِ، فَذَكَرَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ النَّوْعَيْنِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ حُجَّةٌ فَقَالَ:
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آلِ عِمْرَانَ: 18]. وَقَالَ:
{قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يُونُسَ: 53].وَعَنْ بَعْضِ الْأَعْرَابِ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ:
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذَّارِيَات: 22، 23]. صَرَخَ وَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي أَغْضَبَ الْجَلِيلَ حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْيَمِينِ.وَلَا يَكُونُ الْقَسَمُ إِلَّا بِاسْمٍ مُعَظَّمٍ وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ فِي الْقُرْآنِ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ: الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِه:
{قُلْ إِي وَرَبِّي} [يُونُسَ: 53].
{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التَّغَابُن: 7].
{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مَرْيَمَ: 68].
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الْحِجْر: 92].
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النِّسَاء: 65].
{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [الْمَعَارِج: 4].وَالْبَاقِي كُلُّهُ قَسَمٌ بِمَخْلُوقَاتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}،
{وَالصَّافَّاتِ}،
{وَالشَّمْسَ}،
{وَاللَّيْلِ}،
{وَالضُّحَى}،
{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التَّكْوِير: 15]. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَقْسَمَ بِالْخَلْقِ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْقَسَمِ بِغَيْرِ اللَّهِ، قُلْنَا: أُجِيبَ عَنْهُ بِأَوْجُهٍ.أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ: وَرَبِّ التِّينِ وَرَبِّ الشَّمْسِ، وَكَذَا الْبَاقِي.الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُعَظِّمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَتُقْسِمُ بِهَا فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى مَا يَعْرِفُونَهُ.الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَقْسَامَ إِنَّمَا تَكُونُ بِمَا يُعَظِّمُهُ الْمُقْسِمُ أَوْ يُجِلُّهُ وَهُوَ فَوْقُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ شَيْءٌ فَوْقَهُ فَأَقْسَمَ تَارَةً بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً بِمَصْنُوعَاتِهِ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى بَارِئٍ وَصَانِعٍ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ فِي أَسْرَارِ الْفَوَاتِح: الْقَسَمُ بِالْمَصْنُوعَاتِ يَسْتَلْزِمُ الْقَسَمَ بِالصَّانِعِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَفْعُولِ يَسْتَلْزِمُ ذِكْرَ الْفَاعِلِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ مَفْعُولٍ بِغَيْرِ فَاعِلٍ.وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقْسِمَ إِلَّا بِاللَّهِ.وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِه:
{لَعَمْرُكَ} لِتَعْرِفَ النَّاسُ عَظَمَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَكَانَتَهُ لَدَيْهِ.أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ وَمَا ذَرَأَ وَلَا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا سَمِعْتُ اللَّهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ، قَالَ:
{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الْحِجْر: 72].وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: الْقَسَمُ بِالشَّيْءِ لَا يَخْرُجُ عَنْ وَجْهَيْن: إِمَّا لِفَضِيلَةٍ أَوْ لِمَنْفَعَةٍ، فَالْفَضِيلَةُ كَقَوْلِه:
{وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} وَالْمَنْفَعَةُ نَحْوَ:
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التِّين: 1- 3].وَقَالَ غَيْرُهُ: أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِذَاتِهِ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَبِفِعْلِهِ نَحْوَ:
{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشَّمْس: 5- 7]. وَبِمَفْعُولِهِ نَحْوَ:
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النَّجْم: 1].
{وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطُّور: 1، 2].وَالْقَسَمُ إِمَّا ظَاهِرٌ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَإِمَّا مُضْمَرٌ وَهُوَ قِسْمَانِ دَلَّتْ عَلَيْهِ اللَّامُ نَحْوَ:
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 186]. وَقَسَمٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى نَحْوَ:
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مَرْيَمَ: 71]. وَتَقْدِيرُهُ: وَاللَّهِ.وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْأَلْفَاظُ الْجَارِيَةُ مَجْرَى الْقَسَمِ ضَرْبَانِ.أَحَدُهُمَا: مَا تَكُونُ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَيْسَتْ بِقَسَمٍ فَلَا تُجَابُ بِجَوَابِهِ كَقَوْلِه:
{وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الْحَدِيد: 8].
{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا} [الْبَقَرَة: 63].
{يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [التَّوْبَة: 96]. فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَسَمًا وَأَنْ يَكُونَ حَالًا لِخُلُوِّهِ مِنَ الْجَوَابِ.وَالثَّانِي: مَا يَتَلَقَّى بِجَوَابِ الْقَسَمِ كَقَوْلِه:
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 187].
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النُّور: 53]. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَكْثَرُ الْأَقْسَامِ فِي الْقُرْآنِ الْمَحْذُوفَةِ الْفِعْلِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْوَاوِ، فَإِذَا ذُكِرَتِ الْبَاءُ أُتِيَ بِالْفِعْلِ كَقَوْلِه:
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} [النُّور: 53].
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} [التَّوْبَة: 62]. وَلَا تَجِدُ الْبَاءَ مَعَ حَذْفِ الْفِعْلِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ خَطَأً مَنْ جَعَلَ قَسَمًا بِاللَّهِ
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ} [لُقْمَانَ: 13].
{بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الزُّخْرُف: 49].
{بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [الْمَائِدَة: 116].وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّم: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُقْسِمُ بِأُمُورٍ عَلَى أُمُورٍ، وَإِنَّمَا يُقْسِمُ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِهِ أَوْ بِآيَاتِهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَقْسَامُهُ بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عَظِيمِ آيَاتِهِ، فَالْقَسَمُ إِمَّا عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ وَهُوَ الْغَالِبُ كَقَوْلِه:
{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذَّارِيَات: 23]. وَإِمَّا عَلَى جُمْلَةٍ طَلَبِيَّةٍ كَقَوْلِه:
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْحِجْر: 92، 93]. مَعَ أَنَّ هَذَا الْقَسَمَ قَدْ يُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ الْقَسَمِ فَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ يُرَادُ بِالْقَسَمِ تَوْكِيدُهُ وَتَحْقِيقُهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَحْسُنُ فِيهِ، وَذَلِكَ كَالْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَالْخَفِيَّةِ إِذَا أَقْسَمَ عَلَى ثُبُوتِهَا، فَأَمَّا الْأُمُورُ الْمَشْهُورَةُ الظَّاهِرَةُ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَهَذِهِ يُقَسِمُ بِهَا وَلَا يُقْسِمُ عَلَيْهَا، وَمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ الرَّبُّ فَهُوَ مِنْ آيَاتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقْسَمًا بِهِ وَلَا يَنْعَكِسُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَذْكُرُ جَوَابَ الْقَسَمِ تَارَةً وَهُوَ الْغَالِبُ وَيَحْذِفُهُ أُخْرَى كَمَا يُحْذَفُ جَوَابُ لَوْ كَثِيرًا لِلْعِلْمِ بِهِ.وَالْقَسَمُ لَمَّا كَانَ يَكْثُرُ فِي الْكَلَامِ اخْتُصِرَ فَصَارَ فِعْلُ الْقَسَمِ يُحْذَفُ وَيُكْتَفَى بِالْبَاءِ، ثُمَّ عُوِّضَ مِنَ الْبَاءِ الْوَاوَ فِي الْأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ، وَالتَّاءِ فِي اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِه:
{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الْأَنْبِيَاء: 57]. قَالَ: ثُمَّ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُقْسِمُ عَلَى أُصُولِ الْإِيمَانِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ مَعْرِفَتُهَا، تَارَةً يُقْسِمُ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَتَارَةً يُقْسِمُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَتَارَةً عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ، وَتَارَةً عَلَى الْجَزَاءِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَارَةً يُقْسِمُ عَلَى حَالِ الْإِنْسَانِ.فَالْأُولَى كَقَوْلِه:
{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} إِلَى قَوْلِه:
{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصَّافَّات: 1- 4].وَالثَّانِي كَقَوْلِه:
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الْوَاقِعَة: 75- 77].وَالثَّالِثُ: كَقَوْلِه:
{يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 1- 3].
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النَّجْم: 1- 2]. الْآيَاتِ.وَالرَّابِعُ: كَقَوْلِه:
{وَالذَّارِيَاتِ} إِلَى قَوْلِه:
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذَّارِيَات: 1- 6].
{وَالْمُرْسَلَاتِ} إِلَى قَوْلِه:
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} [الْمُرْسَلَات: 1- 7].وَالْخَامِسُ: كَقَوْلِه:
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} إِلَى قوله:
{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [اللَّيْل: 1- 4].
{وَالْعَادِيَاتِ} إِلَى قَوْلِه:
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [الْعَادِيَّات: 1- 6].
{وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [الْعَصْر: 1- 2].
{وَالتِّينِ} إِلَى قَوْلِه:
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التِّين: 1- 4]. الْآيَاتِ
{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} إِلَى قَوْلِه:
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [الْبَلَد: 1- 4].قَالَ: وَأَكْثَرُ مَا يُحْذَفُ الْجَوَابُ إِذَا كَانَ فِي نَفْسِ الْمُقْسَمِ بِهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَقْسَمِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِذِكْرِهِ، فَيَكُونُ حَذْفُ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ أَبْلَغَ وَأَوْجَزَ كَقَوْلِه:
{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1]. فَإِنَّ فِي الْمُقْسَمِ بِهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، وَوَصْفِهِ بِأَنَّهُ ذُو الذِّكْرِ الْمُتَضَمِّنِ لِتَذْكِيرِ الْعِبَادِ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَالشَّرَفِ وَالْقَدْرِ، مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَوْنُهُ حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ غَيْرَ مُفْتَرًى كَمَا يَقُولُ الْكَافِرُونَ، وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرُونَ: إِنَّ تَقْدِيرَ الْجَوَاب: إِنَّ الْقُرْآنَ لَحَقٌّ. وَهَذَا يَطَّرِدُ فِي كُلِّ مَا شَابَهَ ذَلِكَ كَقَوْلِه:
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1]. وَقَوْلِه:
{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الْقِيَامَة: 1]. فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الْمَعَادِ. وَقَوْلِه:
{وَالْفَجْرِ} [الْفَجْر: 1]. الْآيَاتِ، فَإِنَّهَا أَزْمَانٌ تَتَضَمَّنُ أَفْعَالًا مُعَظَّمَةً مِنَ الْمَنَاسِكِ وَشَعَائِرِ الْحَجِّ، الَّتِي هِيَ عُبُودِيَّةٌ مَحْضَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلٌّ وَخُضُوعٌ لِعَظَمَتِهِ وَفِي ذَلِكَ تَعْظِيمُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.قَالَ: وَمِنْ لَطَائِفَ الْقَسَمِ قوله:
{وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضُّحَى: 1، 2]. الْآيَاتِ، أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَى إِنْعَامِهِ عَلَى رَسُولِهِ وَإِكْرَامِهِ لَهُ وَذَلِكَ مُتَضَمِّنٌ لِتَصْدِيقِهِ لَهُ فَهُوَ قَسَمٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَعَلَى جَزَائِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ قَسَمٌ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَأَقْسَمَ بِآيَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ آيَاتِهِ، وَتَأَمَّلْ مُطَابَقَةَ هَذَا الْقَسَمِ وَهُوَ نُورُ الضُّحَى الَّذِي يُوَافِي بَعْدَ ظَلَامِ اللَّيْلِ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ نُورُ الْوَحْيِ الَّذِي وَافَاهُ بَعْدَ احْتِبَاسِهِ عَنْهُ حَتَّى قَالَ أَعْدَاؤُهُ: وَدَّعَ مُحَمَّدًا رَبُّهُ فَأَقْسَمَ بِضَوْءِ النَّهَارِ بَعْدَ اللَّيْلِ عَلَى ضَوْءِ الْوَحْيِ وَنُورِهِ بَعْدَ ظُلْمَةِ احْتِبَاسِهِ وَاحْتِجَابِهِ.
.النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: فِي جَدَلِ الْقُرْآنِ:
أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ نَجْمُ الدِّينِ الطُّوفِيُّ.قَالَ الْعُلَمَاءُ: قَدِ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبَرَاهِينِ وَالْأَدِلَّةِ وَمَا مِنْ بُرْهَانٍ وَدَلَالَةٍ وَتَقْسِيمٍ وَتَحْذِيرٍ يُبْنَى مِنْ كُلِّيَّاتِ الْمَعْلُومَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ إِلَّا وَكِتَابُ اللَّهِ قَدْ نَطَقَ بِهِ، لَكِنْ أَوْرَدَهُ عَلَى عَادَاتِ الْعَرَبِ دُونَ دَقَائِقِ طُرُقِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِأَمْرَيْنِ.أَحَدُهَا: بِسَبَبِ مَا قَالَهُ
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إِبْرَاهِيمَ: 4].وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَائِلَ إِلَى دَقِيقِ الْمُحَاجَّةِ هُوَ الْعَاجِزُ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِالْجَلِيلِ مِنَ الْكَلَامِ، فَإِنَّ مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَفْهَمَ بِالْأَوْضَحِ الَّذِي يَفْهَمَهُ الْأَكْثَرُونَ لَمْ يَنْحَطَّ إِلَى الْأَغْمَضِ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْأَقَلُّونَ، وَلَمْ يَكُنْ مُلْغِزًا فَأَخْرَجَ تَعَالَى مُخَاطَبَاتِهِ فِي مُحَاجَّةِ خَلْقِهِ فِي أَجْلَى صُورَةٍ، لِيَفْهَمَ الْعَامَّةُ مِنْ جَلِيِّهَا مَا يُقْنِعُهُمْ وَتَلْزَمُهُمُ الْحُجَّةُ وَتَفْهَمَ الْخَوَاصُّ مِنْ أَثْنَائِهَا مَا يُرَبَّى عَلَى مَا أَدْرَكَهُ فَهُمْ الْخُطَبَاءِ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: زَعَمَ الْجَاحِظُ أَنَّ الْمَذْهَبَ الْكَلَامِيَّ لَا يُوجَدُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مَشْحُونٌ بِهِ. وَتَعْرِيفُهُ أَنَّهُ احْتِجَاجُ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى مَا يُرِيدُ إِثْبَاتَهُ بِحُجَّةٍ تَقْطَعُ الْمُعَانِدَ لَهُ فِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ أَرْبَابِ الْكَلَامِ، الْمَذْهَبُ الْكَلَامِيُّ وَمِنْهُ نَوْعٌ مَنْطِقِيٌّ تُسْتَنْتَجُ مِنْهُ النَّتَائِجُ الصَّحِيحَةَ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ الصَّادِقَةِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامِيِّينَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعِلْمِ ذَكَرُوا أَنَّ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ إِلَى قوله:
{وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الْحَجّ: 7]. خَمْسَ نَتَائِجَ تُسْتَنْتَجُ مِنْ عَشْرِ مُقَدِّمَاتٍ:قوله:
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الْحَجّ: 6]. لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِزَلْزَلَةِ السَّاعَةِ مُعَظِّمًا لَهَا، وَذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ، لِأَنَّهُ خَبَرٌ أَخْبَرَ بِهِ مَنْ ثَبَتَ صِدْقُهُ عَمَّنْ تَثْبُتُ قُدْرَتُهُ مَنْقُولٌ إِلَيْنَا بِالتَّوَاتُرِ فَهُوَ حَقٌّ وَلَا يُخْبِرُ بِالْحَقِّ عَمَّا سَيَكُونُ إِلَّا الْحَقُّ فَاللَّهُ هُوَ الْحَقُّ.وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ أَهْوَالِ السَّاعَةِ بِمَا أَخْبَرَ، وَحُصُولُ فَائِدَةِ هَذَا الْخَبَرِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِيُشَاهِدُوا تِلْكَ الْأَهْوَالَ الَّتِي يَعْمَلُهَا اللَّهُ مِنْ أَجْلِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَمِنَ الْأَشْيَاءِ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى فَهُو يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَخْبَرَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ يَتَّبِعِ الشَّيَاطِينَ، وَمَنْ يُجَادِلُ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، يُذِقْهُ عَذَابَ السَّعِيرِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مَنْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.وَأَخْبَرَ
{وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} [الْحَجّ: 6]. لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ تُرَابٍ إِلَى قَوْلِه:
{لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الْحَجّ: 6]. وَضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا بِالْأَرْضِ الْهَامِدَةِ الَّتِي يَنْزِلُ عَلَيْهَا الْمَاءُ فَتَهْتَزُّ وَتَرْبُو وَتُنْبِتُ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، وَمَنْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَى مَا خَبَّرَ بِهِ فَأَوْجَدَهُ بِالْخَلْقِ ثُمَّ أَعْدَمَهُ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ بِالْبَعْثِ، وَأَوْجَدَ الْأَرْضَ بَعْدَ الْعَدَمِ فَأَحْيَاهَا بِالْخَلْقِ ثُمَّ أَمَاتَهَا بِالْمَحْلِ، ثُمَّ أَحْيَاهَا بِالْخِصْبِ، وَصَدَقَ خَبَرُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِدَلَالَةِ الْوَاقِعِ الْمُشَاهَدِ عَلَى الْمُتَوَقَّعِ الْغَائِبِ حَتَّى انْقَلَبَ الْخَبَرُ عِيَانًا صَدَقَ خَبَرُهُ فِي الْإِتْيَانِ بِالسَّاعَةِ.وَلَا يَأْتِي بِالسَّاعَةِ إِلَّا مَنْ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ; لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ مُدَّةٍ تَقُومُ فِيهَا الْأَمْوَاتُ لِلْمُجَازَاةِ فَهِيَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.وَقَالَ غَيْرُهُ: اسْتَدَلَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ بِضُرُوبٍ.أَحَدُهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الْأَعْرَاف: 29]،
{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الْأَنْبِيَاء: 104].
{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [ق: 15].ثَانِيهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِطْرِيقِ الْأَوْلَى قَالَ تَعَالَى:
{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ} الْآيَةَ [يس: 81].ثَالِثُهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ.رَابِعُهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى إِخْرَاجِ النَّارِ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ.وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ جَاءَ بِعَظْمٍ فَفَتَّهُ، فَقَالَ: أَيُحْيِي اللَّهُ هَذَا بَعْدَ مَا بَلِيَ وَرَمَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79]. فَاسْتَدَلَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِرَدِّ النَّشْأَةِ الْأُخْرَى إِلَى الْأُولَى وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِعِلَّةِ الْحُدُوثِ، ثُمَّ زَادَ فِي الْحِجَاجِ بِقَوْلِه:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} [يس: 80]. وَهَذِهِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فِي رَدِّ الشَّيْءِ إِلَى نَظِيرِهِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ تَبْدِيلِ الْأَعْرَاضِ عَلَيْهِمَا.خَامِسُهَا: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى} [النَّحْل: 38، 39]. الْآيَتَيْنِ. وَتَقْرِيرُهَا أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْحَقِّ لَا يُوجِبُ انْقِلَابَ الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَيْهِ، وَالْحَقُّ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ هَاهُنَا حَقِيقَةً مَوْجُودَةً لَا مَحَالَةَ، وَكَانَ لَا سَبِيلَ لَنَا فِي حَيَاتِنَا إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا وُقُوفًا يُوجِبُ الِائْتِلَافَ وَيَرْفَعُ عَنَّا الِاخْتِلَافَ، إِذْ كَانَ الِاخْتِلَافُ مَرْكُوزًا فِي فِطَرِنَا وَكَانَ لَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُ وَزَوَالُهُ إِلَّا بِارْتِفَاعِ هَذِهِ الْجِبِلَّةِ، وَنَقْلِهَا إِلَى صُورَةِ غَيْرِهَا صَحَّ ضَرُورَةً أَنَّ لَنَا حَيَاةً أُخْرَى غَيْرَ هَذِهِ الْحَيَاةِ فِيهَا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ وَالْعِنَادُ، وَهَذِهِ هِيَ الْحَالَةُ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهَا فَقَالَ:
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الْأَعْرَاف: 43]. حِقْدٍ فَقَدْ صَارَ الْخِلَافُ الْمَوْجُودُ كَمَا تَرَى أَوْضَحَ دَلِيلٍ عَلَى كَوْنِ الْبَعْثِ الَّذِي يُنْكِرُهُ الْمُنْكِرُونَ، كَذَا قَرَّرَهُ ابْنُ السَّيِّدِ.وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ بِدَلَالَةِ التَّمَانُعِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِه:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الْأَنْبِيَاء: 22]. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ لَكَانَ لَا يَجْرِي تَدْبِيرُهُمَا عَلَى نِظَامٍ، وَلَا يَتَّسِقُ عَلَى أَحْكَامٍ، وَلَكَانَ الْعَجْزُ يَلْحَقُهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا إِحْيَاءَ جِسْمٍ، وَأَرَادَ الْآخَرُ إِمَاتَتَهُ، فَإِمَّا أَنْ تَنْفُذَ إِرَادَتُهُمَا فَيَتَنَاقَضُ لِاسْتِحَالَةِ تَجَزُّؤِ الْفِعْلِ إِنْ فُرِضَ الِاتِّفَاقُ، أَوْ لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ إِنْ فُرِضَ الِاخْتِلَافُ. وَإِمَّا أَلَّا تَنْفُذَ إِرَادَتُهُمَا فَيُؤَدِّي إِلَى عَجْزِهِمَا، أَوْ لَا تَنْفُذَ إِرَادَةُ أَحَدِهِمَا فَيُؤَدِّي إِلَى عَجْزِهِ وَالْإِلَهُ لَا يَكُونُ عَاجِزًا.